الخَريفُ الثَّاني ... إهداء الى عميد شعراء فلسطين د . لطفي الياسيني
بقلم: الشَّاعر د. إحسان الخوري

تَهادىٰ المَسَاءُ في ضَبابِ الغَسَقِ ..
وامتزجَ بآخرِ الأشعَّةِ الشَّاحِبَةِ ..
تارِكاً الغيمَ يَجولُ علىٰ الصَّنَوبَرِ ..
مثلَ زورقٍ ضائعٍ يملأُهُ الضَّبابُ ..
أنفاسُهُ العُذريَّةُ ذاتُ الطَّلِّ الوَديدِ ..
تَنشُرُ الضَّوعَ عَبْرَ تَرَنُّحِه الرَّهيفِ ...
وريحٌ جَوفُها بِلا جُوعٍ زَحَفتْ ..
هيَ ترتدي نسيجاً منَ الفَضْفاضِ ..
يتمزَّقُ معَ كلِّ اجتيازٍ وحفيفٍ ...
وراحَتْ تتبعُ الغيمَ بعيداً إلىٰ الجِبالِ ...
أوراقُ الصَّنوبرِ كانَتْ في حالةِ توثُّبٍ..
تُصفِّقُ معَ الرِّيحِ ..
ثمَّ فجأةً غَفَتْ بسكينةٍ وارتياحٍ ..
لا حيلةَ لها سوىٰ اغترافُ الغَسَقِ ..
وتقاسُمُ النُّبوءاتِ معَ المَساءِ ...
وأنا كعادَتي مع الصَّنَوبَرِ ..
وولعي في الغابةِ المُجاورةِ ..
تَسَلَّلتُ بين نُتَفِ الظلامِ المُختَبِئَةِ ..
أطلقْتُ حواسِّيَ للرِّيحِ ..
وددْتُ الإمسَاكَ بالرِّيحِ والغيمِ ..
لترتيبِ الحنينِ علىٰ الشَّوقِ ..
والسَّفرِ إلىٰ الأخيلةِ المُمكِنَةِ ...
فرأيْتُها خلفَ النَّافذةِ المُطِلَّةِ ..
تَغلي قهوتَها بِسحرِ العرَّافاتِ ..
وثِمارُها تتلألأُ بِتَرَفِ الأُنوثةِ ..
تَفصِلنُا سِتارةٌ منَ الحريرِ ..
لونُها يُغازلُ تَفاصِيلَ الجَسَدِ ..
وتُدندِنُ بلحنِ نشوةِ الحوريَّاتِ ...
جَسَدُها ذاكَ المَشْغولُ منَ الأُنوثةِ ..
كانَ مُلتَهِباً ..
يتأجَّجُ بالعِشقِ ..
ويتنفَّسُهُ الليلُ خَيالا ًخَيالا ً...
مَلاحَةُ روحِها تَفيضُ ..
تملأُ عشَرةَ نِساءٍ بالأُنوثةِ ..
وتَقتُلُ وَجْدَ آلافِ الرِّجالِ ...
فينفُضُني جَسَدُ الوقتِ ..
لمْ أُبالي بالانْتِظارِ ..
إنَّها رائحةُ البُنِّ المُغادِرِ ..
أُشعلُ سيجاري في وجهِ المَسَاءِ ..
َيتلبَّسُني عَبَقُ جَسَدِها المَمزوجِ بالبُنِّ ..
يُشبِعُ روحيَ الوَحيدةَ ..
فأفتقِدُ لوعةَ الاشتياقِ ..
أفتقدُ طعمَ شَفَتَيها ..
نكهةُ التُّوتِ الحَرونِ ..
وهو يُفقدُني قُدرَةَ الحَواسِّ ...
لَكَمْ أشتاقُها ..
لَكَم أرغبُ أن ألمسَ يَدَيْها ..
أُقدِّمَ لها رُزمةَ أشواقيَ المُحتَدِمَةِ...
فأنظُرُها بِصُفوفٍ من النَّظَراتِ الصَّامِتاتِ ..
وعينايَ تَتَعَمشَقُ بِبُطءٍ ..
إلىٰ شامِخاتِ جَسَدِها الجَموحِ ..
لتَستَشعِرَ النَّشوةَ المَربوطةَ بالذَّاكرةِ ..
فَتَخيَّلتُ شَفَتَيها تَسألُني ..
أينَ سَتكونُ عندَ الخريفِ الثَّاني ..؟
قلْتُ لماذا ..؟
قالَتْ سيكونُ عيدَ ميلادي ..!!!
تَمالكتُ دَمعَتي ..
ابتَعَدْتُ ...
وبكَيْتُ دهراً من مُرِّ البُكاءِ ....






تم عمل هذا الموقع بواسطة