السروال الأثري
قصة قصسرة:
بقلم: هاني زريفة
لو زارني الشيطان - في حلم ليلة الأمس – لكان أخف وطأة من زيارة تلك السائحة التي تنحدر من نسل (ميشو) !
كانت جدتي أم عفاش – رحماها الله – تقول لي : " إن زيارة الأفعى – في الحلم – تعني بأن المرء سيصادف امرأة فاجرة " . ولكنها – سامحها الله – لم تذكر لي شيئاً عن معنى زيارة سائحة تنحدر من نسل (ميشو) !
لقد اعتدنا هنا في (قنوات) أن نرى الكثير من السائحات اللواتي يقصدن آثارنا . ولكنني لم أر قط مثل تلك السائحة طولاً وجمالاً وأناقةً !
كانت تتأبط ذراع مترجم عربي، بل سمسار عربي على الأرجح .
- ترى كيف سولت له نفسه أن يصطحبها، دون أن يكون لهما ثالث سوى الشيطان ؟!
كان يبدو إلى جانبها كطفل تقوده أمه، وفوق خصرها – في الجهة المقابلة – تتدلى محفظة متخمة بمشتريات معظمها لا يلمه أحدنا عن (المزبلة) .
ناديت أم أسعد لتجلس معنا، من أجل الحلال والحرام، فجلبت صينية عنب، وسلمت على الضيفين !
أخذ المترجم يتحدث عن مشتريات الزبونة بكلام لا أفهم بعضه .... السائحة تضع رجلاً على رجلٍ !
- السيدة تزور بلادنا في مهمة علمية تاريخية .....
يلثغ بالسين !
- ...... وفي الحقيقة أن النقود القديمة التافهة قد تفيد في مثل هذه الأبحاث .... إن لمثل هؤلاء العلماء فضلاً على بلادنا، إنهم يكشفون لنا .....
أنظر إليها .
- نعم إنهم يكشفون ......
- وليست تضحية كبيرة أن نبيعهم هذه الأشياء التافهة بسعر جم .....
ثيابها ترتفع بمقدار شبر وبعض الشبر !
- قل لهذه السائحة أن تستر بطة رجلها ...... جدتي أم عفاش – رحمها الله – كانت تقول بأن ما يظهر من لحم الأنثى سينسلخ الجلد عنه يوم قيامة الساعة !
تنسل أم أسعد بعد أن تمسح العرق عن جبينها .
- تقول لك ألست عربياً ؟!
- قل لها أبوها ليس عربياً، أما أنا فأنحدر من صلب قحطان !
- تقول : العرب يحبون بطات الأرجل ينفقون ثرواتهم في سبيلها !
- قل لها العرب الذين تعنيهم ليسوا عرباً !
أفتح الصندوق . نلتف حوله . أبحث عن النقود القديمة بين الأشياء البالية .
أبحث .... أبحث ..... أبحث !
أرفع الربابة فتتناولها وتحاول العزف عليها !
أرفع سروالاً قديماً يعود لجدي أبي عفاش (رحمه الله) . أحاول إخفاءه فتختطفه من يدي ....
يظهر نمر مخيف . تتناول مقصاً تقص شاربي النمر، ثم تقص معظم ذيله، فبراثنه . تشق يديه ورجليه فليلاً، فيصبح في كل منهما ظلفتان، وتمسح يدها على وجهه، فيستطيل الوجه قليلاً، وتصبح العينان باهتتين، ويظهر له قرنان . تزول خطوط جسمه وينخفض عنقه ....
أعاود البحث من جديد، بينما تقلب السائحة السروال .أخيراً أعثر على النقود القديمة . أفك عقدة الكيس، وأخرجها .
المرأة لا ترفع نظرها عن السروال .... !
أحرك النقود في يدي فتحدث رنيناً، ولكن الرنين لا يثير انتباهها !
- هل أقلعت (الحرمة) عن شراء النقود القديمة ؟!
يتجاهل المترجم سؤالي، ويبقى يرطن معها !
أظهر عدم إهتمام بقضية بيع النقود، وأبدأ بإعادة الأشياء إلى مكانها في الصندوق ......
- يظهر أن السروال أعجبها، أليس كذلك ؟!
إنه من ثياب أيام زمان، لقد كانوا يتفاخرون بهذه (الشراشيب) وهذه الزخارف .... سقى الله تلك الأيام !
كان اللباس محتشماً وفضفاضاً . أما شباب هذا الزمن فيلبسون ثياباً ضيقة رقيقة، تظهر من أجسادهم أكثر مما تخفي ! كأنهم لا يلبسون شيئاً ... لقد كان سروال الرجل – في تلك الأيام – يتسع لثلاثة من شباب هذا الجيل ! وكان أحدهم لو لف شاربه حول عنق شاب من شباب هذه الأيام لخنقه به ! ..... آه .... إنه الزمن !
لقد كان صاحب هذا السروال يجابه طابوراً من سلالة (ميشو) ! .....
انظرا إلى بقعة الدم هذه التي بلطخ السروال، إنها من أحد الجنود الفرنسيين الذين قتلهم وعمره يناهز الثمانين ......
- هل تبيع هذا السروال ؟
- ماذا ؟!
يعيد المترجم السؤال وكأنه يعني ما يقول !
- قل لها بأننا – من كرمه تعالى – لم نصل بعد إلى مرحلة نبيع فيها سراويلنا !
- ولكنها تحتاج إليه .... أعتبره هدية .... أنتم كرماء !
- قل لها بأنه ليس نسائياً ! لقد قلت لكم بأن صاحبه كان.......
- إنها تعرف ! إنها تعرف ! ولكنها تابت على يديك، وتريد أن تستر بطتي رجليها، خوف أن ينسلخ الجلد عنهما يوم قيام الساعة !
- قدرها الله .... ولكنه ليس من الحلال أن تلبس المرأة ثياب الرجل، لقد كانت جدتي أم عفاش – رحمها الله – تقول :"لعن الله من بشبه من الرجال بالنساء، ومن النساء بالرجال " !
- الغاية تبرر الوسيلة !
- إن كانت تعني ما تقول فلتشتر (بنطالاً) ولتلبسه، وسوف أتبرع بثمنه صدقة لوجه الله !
- ولكنها تريد هذا السروال بالذات !
- إنه بال وفيه بعض العث ..... يبدو أن (الفنطليس) لم ينفعه ! .....ثم لا تخدعها هذه الزخرفات ... إنه من نسيج (الكلمنظة) الرخيص !
- هي راضية !
- إنه بركة من جدي ولن أبيعه !
يرطنان ويرطنان ......
- ستدفع لك مائة .
- لن أبيعه !
- خمسمائة .... ألفاً ....
- لو كانت السائحة أمريكية لقلنا بأن له ( مصالح قومية) في هذا السروال .... أم أن للفرنسيين ( مصالحهم القومية) أيضاً ؟!
- تقول بأنها ستدفع .......
- قل لها العرب لا يبيعون سراويلهم !
- تقول ولكنهم يبيعون ما هو أثمن من السراويل !
- لقد قلت بأن القرب الذين تعنيهم ليسوا عرباً !
تصر على الشراء، وأصر على الرفض، والمترجم يساوم ويساوم،ويزيد المبلغ المدفوع ..... أصرخ :
- قل للسائحة أن تســـــــ .......
يزول قرنا التيس، وتنبت براثنه وشارباه وذيله من جديد . يتخطط لونه وتحمر عيناه ... يعود التيس نمراً .
أستيقظ مذعوراً . أسرع إلى الصندوق :
- حمداً لله ما زال كل شيء في مكانه !

بقلم : هاني زريفة

لا يتوفر نص بديل تلقائي.أعجبنيعرض مزيد من التفاعلات


تم عمل هذا الموقع بواسطة