تسرع الخطى برفقة الشاعر عاطف الجندي (والدها) بثقة لتلاقي عريسها الحاج لطفي الياسيني.فتنحني احتراماً لشيخها في مقامه
زفاف القوافي
نحن.. و الأسماء
الصمت يتحول الى حوار
نعتاد في الحياة بعض الأسماء ونألفها جزءا من حياتنا وعائلتنا اليومية.وعندما نفتح على قسم الشعر في = دنيا الوطن = كل يوم لنقرأ ، نتفقد تلك الأسماء أو نشعر بغيابها. مع انه لا يقوم بيننا وبين أصحابها اتصال شخصي ولا تعارف مشاهدة ، ولا شيء سوى القصيدة أو التعقيب و المداخلة ، لكن الصمت نفسه يتحول إلى حوار وألفة وود متفق عليه من الجميع و لو دون إعلان.
و مع الزمن تصبح الأسماء هي داخلنا لا مجرد إطارنا. هي حنيننا ، وهي إيابنا ، وهي مكان الأحلام و قصائد الشعر التي ترفرف فوق ليلنا ثم تذوب في ذواتنا. وتخدر بها الخدر الجميل، النسائمي ، الندي. وصارت الأسماء أخوات أرواحنا والقصيدة التي تساقط عليه النغم والإيقاع . و تبقى زمالة القلم أسمى من أي زمالة..
زفاف القوافي
جميلة هذه القوافي تسير " حنجلة" في قصيدة زفافها ، رشيقة ، تسرع الخطى برفقة الشاعر عاطف الجندي (والدها) بثقة لتلاقي عريسها الحاج لطفي الياسيني.فتنحني احتراماً لشيخها في مقامه و شيخنا ، و في روح الشِعر يجوز القول :
= أن قصائد الشاعر (ة) هن كالأبناء طالما هي زفرات من ذات الروح =.
من كل قافية ٍ أزف ُّ بياني
يا سيد الشعراء باستحسان ِ
قلدتني نجمات ضوء ٍتُقتفى
لما خطرت َبساحتي و بياني
لذلك ، نجزم و نؤكد ، أن هذه القصيدة ما كانت لتكتب و تنشر بهذا الابداع البياني للمشاعر، بالنمط الانسيابي المتناغم مع خفقات القلب لفظاً لولا دفق صدق المشاعر من الشاعر عاطف الجندي و اعترافه بأهمية تاريخ و شاعرية الحاج لطفي الياسيني و احترامه الذي هو (احترام أبوي روحاني) .
و بعثتَ فى دمى المكهرب بسمة ً
و عرفتُ عندكَ ثكنتي و زماني
يا شيخنا الموشوم بالشعر الأبي
و قائدي في صولة الميــــــــدانِ
تعابير من صلب الأحوال
نرى القصيدة ، متنوعة الأحوال والتعابير في الشعر العمودي والتفعيلة.المتقنة .دون أن تفقد رونقها و نغماتها ، و جاءت كلماتها مَرِنـَات و قوافيها مُـرِنـَّات ، تتميز برحابة الإيقاعات ، وتدفق العاطفة، وسلاسة العبارة، أحياناً ، ودعوتها أحياناً أخرى. وهي في نصوصها مازجت بين الصدق في الوفاء و بين التروي في الثناء ، فلا غلو و لا مغالاة، وفي جميعها أبيات غنائية تتصل بالإرث العربي الشعري المخضرم والمعاصر، و تزخر بالتماعات فكرية لافتة.و لنلاحظ معاً هذا البيت من قصيدة قيلت بقائد الثورة العربية (1920) سلطان باشا الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي :
فيا لك من أطرش لما دعينا
هممت و كنت أسمعنا جميعا
و أبيات الشاعر عاطف الجندي تذهب في توارد أفكار في ذات المنحى و لو بوجه آخر مع الوحدة النضالية العربية في ارض العرب، فهناك "الطرش" و لو كان اسم العائلة و هنا الإعاقة الجسدية فاقرأ النبوغ في تصوير المشهد يا رعاك الله..:
ليس القعيدُ قعيد عجز ٍ ، أنما
من جاء يغزو حرمة الأوطان
من كل صَهيون ٍ تجمَّع عندنا
و اغـــتال بسمة بلدة الأديان ِ
الشاعر و الماضي
حقيقة لا أعرف الشاعر اللبق عاطف الجندي شخصياً ، و لا بيننا أي اتصال ، بل اعرفه ( من أسف شديد) من خلال القليل من إنتاجه الذي اطلعت عليه في = دنيا الوطن = ، إلا أننا نرى بجلاء و يقين في القصيدة :
إن الماضي يؤثر بقوة توازي قوة تأثير الحاضر نفسه فالمستقبل، بالتحديد لا صورة له، والتاريخ هو الذي يوفر له الوسائل التي يمكننا بها تصوره.
و هنا كانت روعة الفكرة و سموها في القصيدة، و بالطبع لا شيء يأتي من فراغ ، و قد تكون سنوات عاطف الجندي الماضية تركت في نفسه أثراً ، فجاء التأثير من الأثر الذي خلفته الأحداث ، و من نظرته الحاضرة للشيخ الجليل الياسيني و عبر العودة والتبصر بتاريخه ، فقال:..
كرسيِك لو يدري بأنك شاعر ٌ
وهبَ الحياة قلادة الأوزان ِ
لرمى كآبة عجزه ، من فخره
و اختالَ مثل شقائق النعمان ِ
يركز هذا اللبق على ما يجب أن يعرفه كل متلقي عن موضوعه في نظرتين:
الأولى: الزمان النضالي، الذي قلما يتساءل الناس عنه .
الثانية: عن الأدوات المفهومية التي تسمح له بتفكيره، وهي أدوات غالباً ما يفترض خطأ، أنها طبيعية.
إن تاريخ مقاربات الزمان لا ينفصل عن التساؤل حول الزمان نفسه، فالزمان ليس واحداً، بل كثرة، كما تم إثباته في هذه القصيدة . وسواء أكان مستمراً تارة أو كان، تارة أخرى، رصيناً أو وصفياً، أو كمياً، أو دورياً أو خطياً، فإننا نعيشه متفجراً لا متناقضاً. إن كثرة سجلاته، ووجوهه، وطبقاته لا تقبل الاختزال: إن جوهر الزمان هو أنه لا وجود إلا للأزمنة و كيف نحن بها أو فيها...
يكفيه أن تحنو عليه بمجلس ٍ
و تخط شعرًا في ربا الإيمان ِ
و ترد كيد المعتدين بطلقة ٍ
شعرية ٍ من بحرك الغضبان ِ
ينخرط فيها الشاعر في منحيين أساسيين:
الالتماعة الموجزة
والإيقاع المنبسط .
وكلاهما يتداخلان أو يوقعان بصمة واحدة للجندي الذي أراد أن يجرب تنوع الكتابة في قصيدة تدور حول مناخ واحد، بحيث يرجح التعاطي مع الشعر اكثر مما يسعى الى صوغ قصيدة في تجربة واحدة وفي نفس واحد.و لنلاحظ قوله بشفافية و تبصر:
أنت الذي قد ضمني في قلبه
فوجدتُ نبعًا للصفاء الحاني
و لأنت َ أكبر من جميع قصائدي
كيف الكلام يصير كالسجان ِ ؟!
كيف الحروف تخونني في ساحة ٍ
لو قلت عنك لقصَّرت أوزاني
لحظات متقاطعة هنا، أو متراكمة هناك، أو مقطوفة هنالك توحي أحيانا اكثر مما تقول، وترسم ملامح أكثر مما تنقل صورة، أو انطباعاً، أو رأياً... وفي سلسل "القصيدة " لمحات طرية عن وجوه شعرية ونضاليه وأدبية، كأنها متتاليات تنشد خلط كل هذه الوجوه الشعرية في شعورية واحدة عبر مشاهد و استعارات ، أو متجاورة، لتبوح بهاجس الشاعر ومتعلقاته ومرجعياته.
و لو اخترعتُ بحارَ شعر ٍ هاهنا
ما عبَّرت عن لوعة الوجدان ِ
تهديك مصر ُ بخير ما جادت يد ٌ
أو قدم السلطان ُ للسلطان ِ
من كل طير ٍ في ربوع بلادنا
من كل قلب ٍ فى دنا الرحمان ِ
الجندي و " فن الصعب "
صوت عاطف الجندي في القصيدة أكاد اسمعه حنوناً شجياً ، و لكنه هادر في طياته ، أو وميض النار تحت رماده في نكهة مميزة، وفي انفتاح على مصوغات الشعر العربي المتنوع ضمن التفعلية ، وعلى تجليات اتجاهات تبدو في ظاهرة سهلة لكنها " فن الصعب " خصوصاً في "المختزلات " أو المقطوفات... التي تفتح النص على الدلالة الإيمانية المكنزة في نفسه أو القراءة المتعددة.
من كل قافية تزفُّ عبيرَها
و تصافح ُ الأهرام َ بالتبيان ِ
يعطيك ربي ما تشاء و يصطفي
من يصطفيك بجنة ٍ و دِنان ِ
هذا مجرد رأي ..
أعده للنشر: زياد أبو لطيف .