رواية ...

" النفـــق "
( الجزء السابع - الأخير )
 د.سليم عوض عيشان ( علاونه )
======================

" الإهــداء "
إلى شهداء الأنفاق المظلمة ..
ليست الأنفاق المادية فحسب أعني
ولكن تلك الأنفاق المعنوية أيضاً .
------------------------
" مقدمة "

في وقت ما .. عاش الناس في نفق طويل مظلم ...

مات البعض وعاش آخرون ليرووا قصة ظلمة ذلك النفق .
المؤلف / سليم عوض عيشان (علاونه )

__________________

" النفـــق "
( الجزء السابع - الأخير )

استولى الإرهاق عليها بشكل مخيف ، راحت تحاول جاهدة أن تفتح عينيها ، تمنت لو تستطيع تحريك يديها لتصل إلى عينيها لتفتحهما ، لتصل إلى وجهها لتمسح العرق الغزير الذي ما زال يتصبب منها ، فيسقط في عينيها ، في أنفها ، وفمها ، فتحس به بمذاق غريب .
تمنت لو تستطيع أن تمد كلتا يديها نحو أذنيها لتغلقهما قليلاً ، كي تتخلص من تلك الأصوات البغيضة التي تصدر من أسفل اللوح الخشبي اللعين حيث العجلات الحديدية بدائية الصنع التي ما زالت تصطك بقوة وعنف بالقضبان الحديدية الرديئة الصدئة والتي تدق مسامعها بقوة ، وتدك أعصاب السمع وباقي الأعصاب دكاً ، فلا يسعفها سوى بعض الدموع الحارقة ، والأنين المكتوم .
ودت لو تصرخ ، فلم تستطع ، وأدركت سخافة الأمر وعقم المحاولة ، فمن ذا الذي سيسمع صراخها حتى لو تمكنت من الصراخ ؟! .
فعندما اصطحبها الرجال الثلاثة لم يكن يدور في خلدها ما ستؤول إليه الأمور ، فلقد اعتقدت أن الأمر في حكم المنتهي ، فما هي سوى دقائق معدودة وتكون في الجانب الآخر ، في أرض الوطن إلى جانب زوجها .
فها هي الأمور تنتهي بشكل جيد ، فهي لم تحتج إلى أوراق .. مستندات .. وثائق، فيبدو أن الطريقة الأخيرة التي سيتم من خلالها وصولها إلى أرض الوطن لا تحتاج إلى أيٍ من هذه الأشياء التي تكدست لديها وأصبحت كومة كبيرة ، ولكنها كانت كومة بلا جدوى أو فائدة ترتجى .
هون عليها الأمر أحد الرجال عندما كان يتقدم منها ويضع العصبة الكثيفة على عينيها ، أخبرها أن هذا ما هو إلا شكل بسيط وسينتهي بسرعة ، لم يعلمها أن ذلك الأمر الذي كان يقوم به هو من دواعي الحيطة والحذر ، خشية أن ترى الطرق والدروب والأزقة التي سوف تمر بها قبل وصولها إلى النفق .. تقبلت الأمر على مضض ، واعتبرته إجراءً جانبياً لا يستحق أن ترفضه أو أن تتمنع عن القيام به ، خاصة وأنها تعتقد أن الأمر برمته سوف ينتهي سريعاً ، بل سريعاً جداً .
كانت تعتقد أن من سيستقبلها ويقوم بالإجراءات اللازمة لنقلها إلى الجانب الآخر ، حيث ارض الوطن ، رجال محترمون ، ذوو ياقات منشاة ، أو مكوية على الأقل ! .. يرتدون الملابس الرسمية أو شبه الرسمية . لم يخطر ببالها أن تلتقي بمثل هذه الوجوه المشوهة المتجهمة ، والشخصيات المزرية المخيفة ، ولكنها في النهاية وقد أسقط في يدها، تحملت الأمر على مضض ، ورددت في نفسها عدة مرات أن الغاية تبرر الوسيلة ، فكل ما عليها أن تتحمل الوجوه الكريهة لبعض الوقت ، حتى تصل إلى بر الأمان
بعد لحظات ؟! .
لم يكن يخطر ببالها أن تكره على تناول ذلك الكوب الغريب من العصير
ذي الرائحة الكريهة ، فهي لم تكن تحب شرب العصير أصلاً ، حتى ولو كان طازجاً ومن صنع يدها ، ولكنها تناولته مكرهة بعد أن أحست بأنها عقبة جديدة يجب أن تتجاوزها للوصول إلى الهدف المنشود والوصول إلى بر الأمان .
لم تكن تدري وهي تتناول الشراب الغريب بأنها سوف تصاب بالدوار والغثيان ، وبأنها سوف تصبح شبه كومة آدمية ، ومجرد جسد بشري لا يملك لنفسه شيئاً ، لا حول لها ولا قوة .
تساءلت في سرها عما حدث لها حينئذ ، ورغم أن فكرها كان مجهداً ، ورغم إصابتها بالدوار والغثيان ، إلا أنها استطاعت الوصول بتفكيرها إلى حقيقة ذلك الشراب اللعين ، وعرفت أنه لا بد وأن يكون فيه شيء من المخدر من ذلك النوع الذي يلقي بالمرء إلى غيبوبة تامة ، بل يسبب شبه غيبوبة ، يرى .. يسمع .. يحس ، ولكن لا حول له ولا قوة ، ولا يستطيع أن يبدي أية حركة .
لعلها تأكدت من ذلك وقتئذ عندما نظرت إلى الوجوه الكالحة والعيون المرهقة للرجال وهم يتابعونها لحظة بلحظة ، حتى كادت أن تسقط على الأرض ومسارعتهم لمساعدتها ، وأية مساعدة تلك ؟!.. وتناهى إلى مسامعها صوت أحدهم وهو يهمس لصاحبه :
- إياك أن تكون قد زدت من الجرعة ..
فيرد عليه الآخر :
- هي مثل الجرعة التي نتعامل معها عادة مع الآخرين ؟! .
اعتقدت لحظتها أن هذه هي آخر العقبات ، وما هي سوى لحظات وتكون في أرض الوطن ، حيث ستضع مولودها ، إلى جانب زوجها .. بين أهله وعائلته .
ما حدث بعد ذلك كان وكأنه لا يعنيها .. كأنه يحدث لامرأة أخرى وليس لها أية علاقة بالأمر . لم تكن تستطيع المقاومة ، أو الرفض ، أو التمنع . فهي لا تستطيع أن تحرك لسانها .. يدها .. جسدها . يبدو أن تركيز المخدر قد كان قوياً بعض الشيء .. فها هي ترى الرجال يتقدمون منها .. يلقون بها على ظهرها فوق اللوح الخشبي اللعين الذي يشبه اللوح الخشبي الذي يقوم " الحانوتي "بغسل الموتى عليه عادة .
لم يكتف الرجال بإلقائها فوق اللوح الخشبي بمثل ذلك الشكل المزري ، حمدت الله أن ثوبها كان جلباباً طويلاً ، وأنها ارتدت سروالاً طويلاً تحته .
فلقد قام الرجال بشد وثاقها بحبال وأحزمة قوية متينة إلى اللوح الخشبي وكأنهم يخشون أن تفر من المكان أو أن تفكر بالعودة ، رغم أنها لم تكن بحاجة لمثل تلك الاحتياطات من الأدوات الكريهة ، فإن المخدر يقوم بشل حركتها بشكل تام .
اعتقدت أن هذه القضية هي نهاية المطاف ، وسوف تكون آخر العقبات من أجل الوصول إلى ارض الوطن بعد عدة دقائق ؟! .
لم تكن تدري أن الرجال قد شدوا وثاقها بهذا الشكل حتى لا تسقط داخل النفق نتيجة للاهتزازات المتوالية للعربة بدائية الصنع التي سوف تسير على قضبان حديدية رديئة وضعت بشكل غير دقيق وغير متقن على طول النفق الطويل .
أدركت مدى جسامة المخاطرة وخطورة الأمر ، خاصة عندما طرأ إلى ذهنها أمر فرض نفسه فرضاً ، إذ راحت تحاول احتساب موقعها ومكانها في باطن الأرض ، وعلى أية مسافة هي الآن من باطن الأرض ، هل هي عشرة أمتار ؟ .. خمسة عشر ؟ .. عشرون ؟ . إنها وحيدة .. مخدرة ، موثقة الأطراف والجسد إلى ذلك اللوح الخشبي اللعين .
أصابتها قشعريرة مخيفة ، تملكها الخوف واستولت عليها الرهبة عندما وصلت بتفكيرها إلى درجة أن راح سؤال غريب يلح على فكرها المجهد .. فماذا لو حدث لها مكروه ؟! .. ومن ذا الذي سينقذها من الخطر فيما لو .. انهار النفق فوق جسدها ؟! .
* * *
- مليوني دولار ..
- مليوني دولار ؟! .. هل يعقل ذلك ؟! ..
كان الحوار يدور بين الشاب والرجل ذي العكازين " الحاج " .. أردف " الحاج " :
- وقد يكون أكثر من هذا المبلغ في بعض الأحيان .. هذه الأرباح السنوية لبعض الأنفاق ، فإن عملية حفر النفق قد تستغرق عدة أشهر ، وقد تكلف أكثر من خمسين ألف دولار ، أو مئة ألف ، وقد تكون أكثر من ذلك بكثير في بعض الأحيان ، وذلك حسب طول النفق وعمقه ، والنفق يحتاج في البداية إلى حفرة عمودية لتوصله إلى فوهة النفق قد يصل طولها إلى خمسة أو عشرة أمتار ، وفي أحيان كثيرة أكثر من ذلك ، باتساع قطره يزيد على المتر في بعض الأحيان ، وقد يصل طول النفق في بعض الأحيان أكثر من ألفي متر ، لكن الربح سيكون في النهاية مجزياً بشكل رهيب ..
- كم يبلغ تعداد الأنفاق تقريباً ؟! .
- حسب معلوماتي المتواضعة فهي قد تتجاوز الألف ، منها البسيط المتواضع ، ومنها العظيم الفخم .. منها ما يستعمل لمرة واحدة ، ومنها ما يستعمل لمرات عديدة .. بعضها للإيجار .. والبعض للبيع ، والبعض للتأجير لصفقة واحدة أو عدة صفقات. فلقد دأب الشباب من السكان المحليين على حفر الأنفاق التي توصلهم بالجانب الغربي وذلك نظراً لارتفاع العائد المادي للعمل في الحفر متجاهلين المخاطرة بالحياة ، ومن أجل تهريب السلع والأشياء البسيطة في البداية ، مثل السجائر والقهوة، الحيوانات والطيور والبلابل ، ثم تطور الأمر إلى تهريب الأشخاص والسلاح والمخدرات والذخائر المختلفة .. وكل ما يخطر في بالك من السلع والحاجيات .
- ولكن كيف يمكن التخلص من كل كميات الرمال والأتربة التي يتم استخراجها من تلك الأنفاق ؟!..
- إنه سر .. سر أيها الشاب .. ولكني لن أضن عليك به أيضاً .. فأنا أعلم تماماً أنك لن تفكر بالعمل في حفر الأنفاق أو التهريب في يوم من الأيام ، ولن تفكر بإفشاء هذا السر لأحد ؟! .. لتعلم يا عزيزي أن هناك طرقاً عديدة للتخلص من تلك الرمال والأتربة ، فلقد كان يتم نقلها بواسطة وسائل النقل المختلفة أثناء الليل ، بواسطة السيارات أو الحيوانات ، وثمة طريقة أخرى ، تتلخص في شراء منزل أو منزلين أو أكثر ، من بعض السكان القريبين من الحدود لاستعمالها كمداخل للأنفاق ولاستيعاب الرمال والأتربة المستخرجة ، وذلك حسب الحالة وحسب الاحتياج ، وبأي سعر كان ، وقد تكون الأسعار خيالية في بعض الأحيان ، وثمة طريقة سرية أخرى لن أبخل بالبوح لك بها ، وهي عملية التخلص من الأتربة والرمال وذلك بضخها في شبكات الصرف الصحي " المجاري " وذلك باستعمال آلات ضخ ومضخات قوية جداً وفائقة السرعة للتخلص من الأتربة في شبكات الصرف الصحي الرئيسية ؟! .
- يا لها من طرق جهنمية حقاً! .. ويا لها من معلومات غريبة ! .. ولكن أليس هناك من مخاطر ؟! .
- أوه .. المخاطر عديدة وكثيرة ، مخيفة ومميتة ، منها وكما رأيت انهيار الأنفاق على العاملين بها أو الأشخاص الذين يتم تهريبهم داخلها ، أو البضائع التي يتم تهريبها كما حدث بالنسبة لي شخصياً ولبضاعتي .. ليس ذلك فحسب ، بل هناك حالات من الاختناق والوفاة تتم داخل الأنفاق للأفراد والأشخاص ، والتي تم بعضها نتيجة لإطلاق قنابل الغاز بداخلها من الجانب الغربي ، وقد قتل عدة أشخاص من السكان المحليين داخل بعض الأنفاق وذلك نتيجة للاختناق وليس نتيجة لانهيار الأنفاق ، فالغاز الذي يطلق داخل الأنفاق يتسبب في قتل أي كائن حيّ داخل النفق ولمدة عدة أشهر .. علاوة على إغلاق فوهات بعض الأنفاق على من بداخلها فجأة في بعض الأحيان ؟! .. علاوة على احتمال التعرض للاعتقال بسبب الحفر تحت الحدود في الأنفاق .. ولقد كانت أطوال الأنفاق في البداية بسيطة لا تتعدى المئة متر ، ثم ازدادت بالتدريج ووصلت إلى سبعمائة أو ألف متر في بعض الأحيان ، وفي الآونة الأخيرة امتدت لمسافة تزيد على ألفي متر ، وفي بعضها وسائل إضاءة متواضعة ووسائل تهوية صحية لا بأس بها ، وقد تكون بارتفاعات مناسبة لمرور الأشخاص وهم يحنون ظهورهم ؟! .. وبعض الأنفاق تمتد لمئات الأمتار في الجانب الغربي داخل الأراضي المصرية ، بحيث تصل إلى الحقول الزراعية ، حيث يقوم العاملون في النفق برفع أنبوب إلى الأعلى لمساعديهم في الجانب الغربي وذلك من أجل تحديد " عين " النفق . وقد يتم فتح تلك العين في الجانب الغربي في ساعات الليل بحيث تكون البضائع المتفق على تهريبها جاهزة ، وموجودة بالقرب من مكان " عين النفق " ، وقد يتم استخدامها لمرات قليلة ثم يتم إغلاقها أو تركها .
- وإذا حدث أن اكتشف الأمر ؟! .
- كما قلت لك سابقاً .. فقد يلقى القبض على العاملين في الحفر بالأنفاق ، أو قد يلقى داخل الأنفاق بقنابل الغاز القاتل ، وقد حدث أمر مضحك .. وحقاً : " إن شر البلية ما يضحك " .. فلقد كان بعض الرجال يعملون في حفر بعض الأنفاق ، وكان يساعدهم " ناضورجي " يقف فوق أحد المنازل القريبة من مكان النفق ، وهو يحمل منظاره المكبر ليعرف إلى أي مدى وصل الحفارون بالعمل داخل النفق ولتوجيههم بمعرفة كم من المسافة يحتاجونها للوصول إلى الأماكن الآمنة في الجانب الغربي . كان الحفارون يقومون برفع قضيب حديدي قوي عندما يعتقدون أنهم على مقربة من مكان الوصول إلى النقطة التي يريدونها ، يقومون برفع القضيب الفولاذي إلى الأعلى باستعمال أدوات بدائية للوصول إلى سطح الأرض ، فيراه " الناضورجي " من مكانه بمنظاره المكبر ، فيتصل بمن داخل النفق بطريقته الخاصة ويعلمهم أنهم على مسافة معينة من الوصول إلى الهدف ، وأن عليهم متابعة الحفر لعدة أمتار أخرى . ولقد حدث في إحدى المرات أن قام الحفارون برفع القضيب الحديدي القوى إلى الأعلى ، وتصادف وجود شرطي مصري في الجانب الغربي يقوم بأعمال الدورية ، فثقب القضيب الفولاذي حذاء الشرطي وأصاب قدمه ، فاتصل الشرطي بالضابط المسؤول عنه ، فأمره بتجاهل الأمر مؤقتاً وعليه أن لا يبدي أي اهتمام بالأمر حتى لا يلاحظه " الناضورجي " ، فامتثل الشرطي للأمر ، واستأنف الحفارون داخل النفق العمل ، حتى وصلوا إلى الجانب الغربي ، حيث كانت أجهزة الأمن المصرية في انتظارهم ؟! .
* * *
أخرج الرجل الفظ جهاز الاتصال من حزامه بعد أن تلقى رنيناً معيناً ، استقبل المكالمة دون أن يتفوه بحرف ، أومأ برأسه قليلاً قبل أن يقفل الجهاز وهو يردد :
- علم .. علم ..
لم يلبث أن أشار لأحد الرجال المسلحين الذين يتحلقون حوله بإشارة معينة ، اقترب منه الرجل المسلح ، همس له الرجل الفظ بشكل سريع .. اتجه المسلح إلى الخارج حيث الشاب .. رافقه حتى وصلا مجلس الرجل الفظ وتركه .
كان الرجل الفظ يجري المكالمات العديدة ، بعضها يتلقاها ، وبعضها يقوم بالاتصال بها من جانبه . وقف الشاب أمامه لوقت ليس بالقصير ، تماماً كالتلميذ البليد المذنب الذي يقف أمام معلمه . أنهى الرجل الفظ اتصالاته ، توجه ببصره ناحية الشاب ، حاول أن يرسم شبه ابتسامة على وجهه المكتنز ، كانت الابتسامة مفتعلة سمجة .. ردد :
- مبروك .. زوجتك ستصل بعد دقائق ..
زغردت نفس الشاب .. فرح .. سعد .. كاد أن يقفز أو يطير من الفرحة ،
فها هي زوجته تصل أخيراً ، بعد طول المعاناة والمشقة والمكابدة هي تصل .
أشار الرجل الفظ بيده إشارة معينة إلى أحد رجاله المسلحين ، اقترب الرجل المسلح منه ، همس له بكلمات مبهمة وكأنها طلاسم ، لم يلبث الرجل المسلح أن تأبط ذراع الشاب .. وغادرا المكان بعد أن انضم إليهما رجل مسلح آخر .
سار الرجلان المسلحان برفقة الشاب مسافة لا بأس بها ، كان الوقت قد قارب على الغروب ، وأخذت الشمس تلملم بقاياها استعداداً للغوص في أعماق البحر البعيد ، فأصبح لونها أصفراً ، تماماً كوجه الشاب بعد أن كان متوهجاً قبل ساعات .
لم يلبث الرجلان المسلحان أن سارا بالشاب في أزقة ملتوية ، ومناطق شبه موحشة .. إلى أن وصل الجميع أحد المنازل شبه المهدمة شبه المهجورة .
بعض النسوة كن يجلسن أمام المنزل يثرثرن بأصواتهن المتداخلة ، عجب الشاب كيف أنهن يعشن في هذا المكان المنعزل الموحش ، وعجب كيف كن يتحدثن جميعاً في نفس الوقت ؟‍ ، ويستمعن أيضاً في نفس اللحظة ؟‍ .. لم يفهم الشاب من حديثهن شيئاً ، فالحديث متداخل بشكل غريب .
طرق أحد الرجلين المسلحين الباب عدة طرقات بشكل معين ، لم يلبث أن انفرج الباب عن وجه رجل آخر في الداخل ، أفسح المجال للقادمين بعد أن تبين شخصية القادمين ، دخل الرجلان المسلحان إلى المكان برفقة الشاب .
أحس الشاب بالوحشة والرهبة ، فالمكان موحش ورائحته عفنة . لم يلبث الرجال أن توجهوا ناحية حجرة من حجرات المنزل ، انحنى أحدهم على الأرض ، أزال بعض التراب عن أرضية المكان ، ظهر الغطاء الإسمنتي الضخم ، انحنى آخر إلى جانبه ، قاما برفع الغطاء عن فوهة الحفرة لم يلبث أحدهما أن بدأ النزول في الحفرة ببطء حتى اختفى تماماً داخل الحفرة .. وقف الشاب يراقب الأمر وقد أصابته القشعريرة لرهبة المكان وعفونته .
تحرك الرجلان بعد أن تلقيا إشارة معينة من داخل الحفرة وراحا يسحبان ببطء بعض الحبال المدلاة في الحفرة ، راحا يسحبان .. يسحبان .. ويسحبان .
شعر الشاب أن الوقت يمر ببطء .. ببطء شديد ، أحس بالقشعريرة تسيطر على سائر أعضاء جسده ، شعر بالعرق غزيراً يتصبب من شتى أنحاء جسده ، راح يراقب الأمر بأنفاس لاهثة وعيون زائغة ، شعر أن دقات قلبه تقرع بسرعة وشدة .. مشاعر طاغية متداخلة تسيطر عليه وعلى حواسه ، لم يلبث أن أخذ في الظهور من فوهة الحفرة شيء يشبه اللوح الخشبي .. هاله أن يرى شيئاً مثبتاً إليه بقوة ، أطل شيء يشبه رأس الإنسان .. لعله رأس امرأة .. ثم بدأ يظهر باقي الجسد بالتدريج .
الأيدي مثبتة إلى اللوح الخشبي بحزام متين .. الوسط والقدمان أيضاً .. حتى تمكن الرجلان في النهاية من سحب اللوح الخشبي بالكامل ، وما عليه من حمل مثبت بقوة .
الوقت أصبح متأخراً بعض الشيء .. جحافل الظلام الحالك أخذت ترخي سدولها على المكان ، فزادت الأمر وحشة ورهبة .
لم يلبث الرجل الذي كان داخل الحفرة أن خرج منها وانضم إلى الرجلين المسلحين .. أخرج من جيبه " ولاعة " .. أشعل شمعة ، تراقص ظل الجميع على الجدران بأشكال مخيفة .
نظر الشاب ناحية المرأة المثبتة إلى اللوح الخشبي ، أنكر معرفتها ، هيئ له أنه لا يعرف هذا الوجه مطلقاً ، لم يلتق بصاحبته في يوم من الأيام .. ولكنه تدارك الأمر ..
فإذا كان الأمر كذلك ، والمرأة ليست زوجته .. فلماذا طلبوا منه الحضور إلى هنا ؟! .. بينما المرأة كانت شبه نائمة .. فهي لا تبدي حراكاً .
تقدم الشاب متطوحاً ناحية المرأة التي جلست على اللوح الخشبي بعد أن فك الرجال وثاقها ، جلست مرهقة متعبة ، يسندها الرجال من الجانبين .. يساعدونها على النهوض عن اللوح الخشبي .
أحس الشاب بالدوار .. بالغثيان .. بالارتعاش . اقترب من المرأة ، دقق النظر إليها على الضوء الباهت الذي يصدر عن ذبالة الشمعة السيئة ، مال إلى الاعتقاد أنها زوجته .. دقق النظر أكثر .. تأكد فعلاً أنها زوجته .. تساءل في سره بمرارة بصوت هامس : " ولكن .. ما الذي فعل بها كل ذلك ؟‍ "
دنا من المرأة .. هتف باسمها عدة مرات ليتأكد وبشكل قاطع أنها هي ..
نظرت إليه بعيون ذابلة ونظرات زائغة ، هتفت باسمه وكأن صوتها يأتي من وراء البحار .. من وسط القبور .. من داخل النفق .. كاد أن يصرخ .. كاد أن يبكي .. كاد أن يغمى عليه .. كاد أن يقع على الأرض . تماسك قليلاً.. تمالك نفسه .. كتم غيظه .. ألمه .. عذابه .. أنينه ..
مد يده ناحية زوجته .. أسندها إلى صدره .. حاولت أن تمد يديها إليه فلم تستطع .. ألقت برأسها إلى صدره ، لم تلبث أن تقيأت بشدة .. بللت ثيابها وثيابه ، راح يمسح بقايا القيء عن فمها .. عن وجهها .. عن صدرها بمنديله .. أنهضها بصعوبة .. شعر أن قدميها لا تستطيعان حملها حتى بالكاد .. طوقها بذراعيه .. سار بها قليلاً .. كاد أن يقع على الأرض عدة مرات .. تمالك نفسه .. تماسك .. شعر بالوهن والضعف الشديدين ، والبرودة الغريبة ، القشعريرة تسيطر على جسده وعلى جسد زوجته .. حملها بين ذراعيه .. سار خطوة .. أخرى .. وأخرى ..
خرج الرجال من المكان .. خرج الشاب يجر قدميه جراً بينما كان يحمل زوجته المتهالكة ، النسوة في الخارج ما زلن يثرثرن ..
أشارت زوجته بإيماءة خفيفة من رأسها ، وحركة بطيئة من يدها ناحية بطنها المنتفخ .. همست بوهن وإعياء :
- سأضع .. مولودي ..
تنبه الشاب للأمر .. زاده الأمر المفاجئ حيرة واضطراباً .. فهو لا يدري ماذا عليه أن يفعل ؟ .. وها هي زوجته تعلمه أنها سوف تضع مولودها في مثل هذا الظرف وفي مثل هذا المكان ؟‍ .. فالمكان مقفر .. موحش .. ناءٍ .. لا طبيب ولا مستشفى ..
لا عيادة .. لا مساعدة من أحد .. فقط عليه أن يستنجد بالنسوة الثرثارات ، فلا بد أنهن على دراية أو معرفة بمثل هذه الأمور ..
استنجد بالنسوة اللواتي كن ما زلن يثرثرن .. صرخ فيهن بصوت مليء بالحزن .. بالألم .. بالعذاب :
- أدركنني .. أرجوكن .. زوجتي ستضع مولودها .
توقفت النسوة عن الثرثرة قليلاً بعد أن كرر الشاب النداء بالاستغاثة .. نهضت إحداهن من مكانها ، توجهت ناحية الشاب ، ثم ناحية المرأة .. شهقت المرأة بحدة :
- يبدو أنها اللحظات الأخيرة من الوضع .. لا بد أن تسرع بها إلى المستشفى .. العيادة .. يجب أن يراها الطبيب حالاً ..
هتف الشاب بصوت متحشرج تخنقه العبرات :
- هل يوجد مستشفى قريب هنا ؟‍ .. عيادة ؟‍ .. طبيب ؟ .. سيارة ؟.
- المستشفي بعيد عن هنا ، ولا يوجد عيادات أو أطباء في مثل هذه المنطقة ..
إن أقرب وسيلة للمواصلات من هنا تحتاج إلى السير مئات الأمتار .
- أرجوك يا سيدتي .. أرجوك .. حاولي أن تساعديني .. أن تساعديها ..
توجهت المرأة نحو بقية النسوة اللواتي ما زلن يثرثرن .. هتفت بهن .. استنجدت بهن لمساعدتها .. سارعت بعض النسوة بالاندفاع إلى المكان بعدما تلكأن قليلاً .. هالهن حال المرأة زوجة الشاب وما وصلت إليه الأمور ، ساعدنها على السير .. دخلن منزل جانبي .. اختفين بالداخل .
وقف الشاب بباب المنزل جزعاً .. مضطرباً .. باكياً .. يروح ويجيء بعصبية .. ينتظر وضع زوجته لمولودها ، مولودهما الأول الذي تكلفا من أجله كل هذا العناء .
جلبة وضوضاء عن بعد .. يلتفت الشاب ناحية مصدر الصوت .. من خلال العتمة الحالكة والظلمة الدامسة ، يستطيع بالكاد أن يتبين ملامح القادمين .
إنهم الرجال المسلحون .. يقتربون من المكان .. يسير بينهم الرجل الفظ بعد أن ترجلوا من السيارة الفارهة .. شعر الشاب بالسعادة والارتياح ، أحس أن الفرج قد أتى .. وأن النجدة والمساعدة قد وصلت في الوقت المناسب ، فلا بد أن يكون الرجل الفظ وبطانته قد حضروا للمساعدة والنجدة ، إذ يبدو أنهم شعروا بالوضع السيئ الذي آلت إليه الأمور ، شعر بشيء من الارتياح والهدوء .. أحس أنه كان يظلم الرجل الفظ كثيراً .. فها هو يأتي للمساعدة والنجدة في الوقت المناسب .. المناسب تماماً .
بدد تفكيره صوت الرجل الفظ الأجش مجلجلاً في المكان :
- لقد قلت منذ البداية أنها صفقة خاسرة .. بل خاسرة جداً .. لقد خدعتني أيها الشاب الأبله .. لقد خدعتني بشدة .. فالاتفاق بيننا أن أحضر لك شخصاً واحداً .. فرداً واحداً .. وهي زوجتك .. زوجتك فقط . ولكنك خدعتني .. وأحضرت شخصاً آخر .. أحضرت الطفل معها .. ونحن لم نتفق على ذلك . وعلى ذلك فإنني أطالبك بدفع مبلغ آخر عن الطفل الوليد . وسوف أتعاطف معك في هذا الأمر ، فأنا لن أطالبك بمبالغ كبيرة ، فقط أريد منك ألفي دولار فقط ؟‍ .
أصيب الشاب بالغثيان .. بالدوار .. كرر الرجل الفظ الصراخ عدة مرات بصخب وعنجهية .. خرجت إحدى النسوة من ذلك المنزل الذي دخلته برفقة زوجته وباقي النسوة .. كانت تحمل بين يديها شيئاً لم يستطع الشاب أن يتبينه .. فالغشاوة الكثيفة من الدموع والحزن والألم تحجب الرؤية عن عينيه .
تقدمت المرأة منه أكثر وأكثر .. الصراخ المتوالي للرجل الفظ يرتفع أكثر وأكثر .. ناولت المرأة للشاب ما كانت تحمل بين يديها وهي مطرقة إلى الأرض ..
هتفت بصوت هامس متهدج :
- إنه طفلك يا سيدي .. إنه المولود . سيدي .. لقد ولد طفلك ميتاً !!! ..

لا يتوفر نص بديل تلقائي.ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏جبل‏، و‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏، و‏طبيعة‏‏‏ و‏نص‏‏‏ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏شخص أو أكثر‏، و‏‏أشخاص يجلسون‏، و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏ و‏طبيعة‏‏‏

تم عمل هذا الموقع بواسطة