لطفي الياسيني: مقاتل في خندق الشعر ” – بقلم د . السيد إبراهيم أحمد

بقلم الدكتور : السيد إبراهيم أحمد .

عرف المواطن الفلسطيني التسعيني الشاعر المجاهد الدكتور لطفي الياسيني القتال دفاعًا عن أرضه، والقتال زودًا عن نفسه، والقتال في الصد عن شعره، والقتال دفاعًا عن لغته، وعن عروبته، وعن مواقفه الوطنية، وعن محاولات إقصائه، وتهميشه، ودفنه حيًا.. يقف كصخرة صلدة لا تعرف الملل والكلل في وجه الموجات العاتيات المتتاليات التي لم ترحم سنه، ولا علته، ولا تاريخه الذي قدم منه سبع سنوات عجاف في السجون الإسرائيلية بتهمٍ أمنية، وعاش تحت الإقامة الجبرية لا يغادر وطنه، كما أصيب في معركة أيلول الأسود إصابة بالغة كان نتاجها أن بترت ساقه اليسرى بالإضافة إلى شلل في الذراع الأيسر فصار أسير كرسي الإعاقة. وعلى الرغم من أنه من مواليد الشوف بلبنان، ثم هاجر مع من هاجر إلى فلسطين حيث سكن دير ياسين إلا أن أصل شاعرنا من الجزيرة العربية؛ فيعود نسبه إلى آل عقيل، من المملكة العربية السعودية.

حيثما يكون الياسيني تجده منتجًا، مبدعًا، متحركًا؛ فقد كان أستاذًا جامعيًا حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي، شاعرًا مخضرمًا أصدر أكثر من ستين ديوانًا بالعربية الفصحى وهذا لا يعني عدم صدارته وتمكنه من العامية في ذات الوقت؛ فقد تحدى الزجال الشاعر اللبناني الكبير زغلول الدامور في ملحمة شعرية زجلية أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر المحكي وتفوق عليه، ولهذا فلم يكن غريبًا أن يحصل على لقب شاعر فلسطين الأول منذ العام 1942م، ويتحدث ــ غير تمكنه للغته الأصلية ــ العديد من اللغات العالمية غير السريانية.

وقد أسس شاعرنا الكبير فرقة المسرح الفلسطيني، كما كان رئيسًا للمجلس الأعلى للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ثم قدم استقالته بعد أن أمضى نصف قرن في عالم الصحافة والأدب، وفي دنيا الصحافة امتلك وأصدر العديد من الصحف، منها: الصريح الفلسطينية، المنتدى، والأدباء، وجريدة الشعر، والخلافة، والبيرق، والطلائع، والمصارعة الحرة، والأقصى، والانتفاضة الفلسطينية، كما أصدر الكثير من الكتب الثقافية والأدبية والتاريخية إلى جانب براعته في فن الرسم، وفي عام 1970 أسس المجلس الأعلى للإعلام الفلسطيني.

من بين الجرائد التي أصدرها شاعرنا الكبير جريدة “المصارعة الحرة”، وهو ما يدعو للدهشة، غير أن الدهشة ستزول عندما نعلم أن الياسيني الصبي والشاب أحب ومارس رياضتي المصارعة وكرة القدم وغيرها من الألعاب الأخرى، غير أنه برع في لعبة المصارعة إلى الدرجة التي حصد فيها بعض الجوائز والشهادات التقديرية، ثم صار رئيسًا لاتحاد المصارعة الحرة في فلسطين.

ويبدو أن المصارعة وهي من ألعاب الفنون القتالية هي ما أكسبت شاعرنا الياسيني الكبير، الصلابة البدنية، والصلابة في المواقف، وفنون المقاتلة ضد من ينازلونه بالاتهامات، ومحاولة تأليب الرأي العام عليه، ومهاجمته، ونلمس صدى هذا في الحدة الصارخة التي تلامس بعض أبيات قصائده التي يفخر فيها بنفسه على خصمه، وحين تجد السخرية اللاذعة، والنقد الذي يشبه العراك، وربما اجتمعت كلها لتشكل بنيته الشعرية المقاوِمة، وقلعته الثقافية التي أبى أن يتنازل أو يتخلى عنها أو ينكسر دونها، وكأن عباس العقاد العملاق بُعث في إهاب الياسيني من جديد، فقد كان هذا سمت العقاد مع من يناوشونه من حين إلى آخر وكان كأنه كالملاكم الذي يصرع خصومه كما وصفه أحد الصحفيين.

ولعل من يطالع قصيدة الياسيني: “قصيدة من قاع الدست إلى الشعارير” سيرى فيها كما سيرى في غيرها مما هو على شاكلتها من بداية العنوان الذي يحمل الهجاء لخصوم الدكتور لطفي الياسيني مثلما يحمل الفخر لنفسه بنعته نفسه خاصةً في هذه القصيدة بكونه ” شاعر الثقلين”.

كما لم يكن غريبًا أن يتبوأ الياسيني سدة الشعر كل هذه الأعوام حتى نجده من خلال إجادته له لا يخشى أن يكتب كلمة “مرتجل” في عناوين قصائده خاصة تلك التي يرد بها تحية من حياه بقصيدة، ذلك أن البناء المؤسِس للياسيني “الشاعر” متين وقديم في مسيرته الشعرية الحافلة؛ فهو ينحدر من أسرة تنشد الشعر وتقرضه من قديم؛ فقد كان جده لأبيه شاعًرا، كما كان والده ووالدته من الشعراء، أي أن الشعر في عائلتهم ينتقل إليهم بالوراثة، ولهذا فقد تغنى شاعرنا بالشعر في طفولته وصباه، وكان يعرض أبياته على أبيه الذي جمع بين إتقانه للشعر كذلك إتقانه العزف على آلة الرباب وهي آلة وترية، ولهذا تجد موسيقى الشعر تنثال من قصائده فطرية، غير مصطنعة ولا متكلفة، كما يحصل هو عليها بيسر وتناغم دون تعسف.

تناولت الدراسات الأكاديمية شعر الشاعر الكبير لطفي الياسيني ومنها موسوعة شعراء العربية، التي يحررها الدكتور فالح نصيف الحجية الكيلاني، وهي دراسة موسوعية لشعراء الأمة العربية جاء في المجلد العاشــر الخاص بشـعراء المعاصرة، تحت عنوان “لطفي الياسيني .. شاعر المقاومة الفلسطينية”: (فالشاعر الياسيني من رواد الشعر العربي المعروفين، وهو أحد أعمدة الشعر العربي وخاصة شعر المقاومة فتاريخه المضيء يشهد بتأثيره بشعراء المقاومة والرفض، وهذا لا يستطيع أحد نكرانه على الإطلاق. كما تميز شعره بالصور الشعرية الرائعة والبداعة الجميلة. ويتميز بثقافة الحوار الثقافي، ويتميز شعره أيضًا بالقوة والجزالة وعمق المعاني، مع غزارة الإنتاج، وجمال الجرس الموسيقي في البحور العربية الشعرية التي استخدمها ونظم فيها شعره. وقد نظم الشعر في أغلب الفنون الشعرية بما فيها الغزل والحكمة والوصف إلا أن أغلبها وأكثرها شعر المقاومة).

كما تناولت الدراسة الأكاديمية “دور الشعر في معركة الدفاع عن القدس” التي أعدها كلًا من الدكتور يحيى جبر، والأستاذة عبير حمد، التي قدمت في مؤتمر القدس الذي نظمته جامعة القدس المفتوحة 2009م قصيدة “انقذوا بيوت القدس” للشاعر لطفي الياسيني، وقد كان تعليقهما على القصيدة: (وبعد هذه المطولة التي ضمت أسماء أماكن شعبية في القدس ونابلس وأسماء مدن وقرى فلسطينية، ندرك أن الشاعر يغذي فينا إحساسًا لا يضاهى بالفجيعة وفقدان الحرية، وهذا الإحساس الفجائعي في جوهره أكثر حقائق وجودنا ضراوة ومعنى … لذلك فإن فلسطين بالنسبة للشاعر العربي، لم تكن موضوعا خارجيًا فاترًا، بل كانت جزءًا من موضوعة الحرية والصراع الدامي من أجلها في الوطن العربي، لم يكن اغتصاب هذه الأرض انتهاكًا مجردًا للجغرافية، أو عدوانًا عابرًا عليها، بل هي بالنسبة للشاعر العربي عدوان على حريته وتماسكه وبهجته الإنسانية، ولذا كان الشاعر يتماهى مع عناصر الموضوع الفلسطيني).

كما كان للشاعر الكبير لطفي الياسيني نصيبه في دنيا الحوار، وذلك حين أقام معه المحاور الجزائري القدير الأستاذ ياسين عرعار حوارًا جادًا غطى الكثير من المناطق الإبداعية في حياة الياسيني، والتي لم تُلقَ عليها الأضواء من قبل، كما تطرقت إلى انطباعات الرجل ورأيه في كثير من الأمور المتنوعة، وقد نشرت الحوار جريدة “الحوار” الجزائرية في عام 2013م، وكنت أرجو أن يطول الحوار أكثر، أو أن يعيد عرعار كَرة الحوار بشكل مطول مرة أخرى مع الياسيني، فقد تشعبت الأمور أكثر، ورأيه الآن هام في المستجدات، والأحوال التي طرأت علينا، وعلى الشعب الفلسطيني بصفة خاصة.

لا يتناسب حجم ما كُتِبَ عن الرجل وحجم ما كَتَب، كما لا يتناسب مع طول عمره الإبداعي الذي يوازي تقريبًا عمره السني مضروبًا في درب كل فن أجاده، وفي كل مؤسسة أسسها أو ترأسها أو كان عضوًا فيها، أو عمره الجهادي الحافل، كما أن الدراسات الأكاديمية والنقدية تتوارى خجلًا لقلتها أمام إبداعه الكبير والقيم، وهو ما يجب الإلفات إليه بالنسبة للقائمين على مؤسسات الثقافة في فلسطين، وكذلك خارجها؛ فالرجل لم يكن مبدعًا فلسطينيًا فقط بل كان عروبيًا ثوريًا شارك في الكثير من الأحداث والاحتفاليات العربية خارج بلاده، إن لم يحظَ بالحضور فقد قامت قصائده بدوره نيابة عنه.

سأتناول بعض أبيات من بعض قصائده التي تظهر معاناة الرجل الذي قدم سيرته مكتوبة في كثير من الصفحات لعل من يقرأها من الذين لا هم لهم سوى منابذته، وشتمه، والهجوم عليه أن يرعووا ويستحوا وينتهوا، ومن تلك القصائد قصيدته: “قصيدة من قاع الدست إلى الشعارير”، والتي يدافع فيها عن الفصحى، والشعر العمودي، وعن ريادته الشعرية أمام الجميع، وسأختار منها بعض الأبيات لضيق المقام:

لأني أنظم الشعر المقفى *** وأعشق شعر شوقي والمقفع
جميع الناس لاموني وقالوا *** كفى يا شاعر الأوطان ارجع
فقلت بلى سأمضي في قريضي*** ومن غيري على شمس تربع
مضى تسعون عاما من حياتي*** لقد نلت الثريا كنت أبدع
وغيري لم يزل يحبو كطفل*** على أعتاب أشعاري ليرضع
أنا لطفي الياسيني من زماني*** هزمت الشعر ميلادي مروع

 ويقول منها أيضًا:

أنا ملك القوافي من زماني *** ماء التبر شعري قد ترصع
تربى الشاعرون على ذراعي*** وهذا اليوم منهم من تخنع
سلوا طوقان عن فعلي وشعري*** إذا بارزت خصمًا صار أصبع

يقول في قصيدة أخرى:

يهاجمني زغاب الشعر **** في الوطن الفلسطيني
لأني شاعر الثوار **** مذ أعوام حطين
لأني خادم الأخيار **** أصحاب النبيين
رفضت سلام محتل **** سلبني دير ياسين
فدائيًا أنا ما زلت **** تشهد لي نياشيني

ولئن كان هناك من يناصبون الشاعر الكبير العداء، والخصومة بالحق والباطل، فهناك كتب من يحبونه ويجلونه، ويعرفون مكانته من الأصدقاء والزملاء والأحبة والتلاميذ. وكلهم على اختلاف مشاربهم، وتجاربهم، وذائقتهم كتبوا بالشعر والنثر فيه ما يستحق أن يُجمع في كتاب تذكاري عن الرجل، والذي لا يسعني إلا أن أنقل من كل قصيدة أو مقالة غير أبياتٍ وكلمات لضيق المقام:

تم تكريم اتحاد الكتاب والمثقفين العرب للشاعر لطفي الياسيني عام 2012م، وقد كتب عنه الدكتور محمد حسن كامل رئيس الاتحاد في تقدمته عنه: (جندي صنديد، ومحارب عنيد، سلاحه الحرف في كل تصريف وصرف، يطوع الحروف في غير معلوم المعلوم والمعروف، شيخ المجاهدين، وإمام المكافحين، حامل لواء الحرية، يذكرني بشيخ المجاهدين عمر المختار، كتب على جدار فلسطين معلقات الحرية، علَّم الأجيال الوطنية والنفس الأبية، أطلقتُ عليه “عميد الشعر العربي”، متعدد المواهب, يتحدى بحرفه كل المصاعب، الصبر عنوانه, والحلم كلامه, والأخلاق ألوانه, والحرية مرامه, والإبداع إلهامه, والسلم سلامه, والصمت حكمته , والحكمة من خلفه ومن أمامه، سيرته الذاتية حافلة بالمسرات, والفكر والرسالات, والروعة والبطولات …… اليوم نزيد فيها حرفاً من حروف المكرمات).

وإذا انتقلنا من النثر أو السرد إلى الشعر، وكثير من الشعراء كتبوا في الياسيني القصائد القصار والمطولة، ويأتي في مقدمتهم الشاعر الجزائري ياسين عرعار الذي يقول في قصيدته: “رسالة إلى الشاعر لطفي الياسيني”:

لُطْفِي .. أبِي .. يَا أيُّهَا المِصْبَارُ *** أنْتَ الشَّجَاعَةُ، فِي الوَغَى مِغْوَارُ
لُطْفِي أبِي سَتَظلُّ فِي صَفَحَاتِنَا *** حَرْفًا، بِهِ التّارِيخُ وَ الأفْكَارُ
سَتَظلُّ شَاعرَ ثوْرَةٍ عِمْلاقَةٍ *** جَبّارَةٍ .. قَدْ صَاغَها الأحْرَارُ
لُطْفِي البُطولَة والعُرُوبَة شَاعِرٌ *** عُنْوانُهُ الزَّيتُونُ .. وَالأشْعَارُ
لُطْفِي الشّهَامَة والرّجولَة صَامِدٌ *** واللهُ يَا..” أقْصَى ” لَكُمْ نَصَّارُ
يَا شَاعرَ الأقْصَى، شَفَاكَ اللهُ منْ *** مَرَضٍ .. ودَامَ قَصِيدُكَ البَتّارُ
سَكَبَ الإلَهُ بِرُوحِكمْ كَلِمَاتِهِ ***  فَاقْصِفْ يَهُودًا أيّهَا الإعْصَارُ
يَا شَاعرًا شَهدَ الزّمانُ لِشعْرهِ *** فاهْنَأْ بِشعْرٍ صَاغَهُ عَرْعَارُ

كما قدم الشاعر المصري عاطف الجندي قصيدة عنوانها ” إلى شيخ الشعراء لطفي الياسيني”، بدأها بهذه الكلمة: (هو والدي الذي لم أره سوى من خلال نبضه قبل صوره)، ونختار منها بتصرف:

من كل قافيةٍ أزفُّ بياني *** يا سيد الشعراء باستحسان
يا شيخنا الموشوم بالشعر الأبي *** وقائدي في صولة الميدانِ
ليس القعيدُ قعيد عجزٍ، إنما *** من جاء يغزو حرمة الأوطانِ
كرسيِك لو يدري بأنك شاعرٌ *** وهبَ الحياة قلادة الأوزانِ

وقد كتب فيه ثله من الشعراء والشاعرات، مثل: زاهية بنت البحر مريم محمد يمق وقصيدتها “بوركت لطفي”، كما كتب الشاعر الدكتور عيسى حداد قصيدته “باكورة القرن والعقود ـــ رحلة العمر”، وكتب الروائي القاص سليم عيشان قصيدته “يا سيد الكلمات.. وأمير عصري”، وكتب الدكتور عصام أحمد ذيب عدي قصيدته “بطاقة شكر وعرفان إلى معالى الدكتور لطفي الياسيني”، وكتب عميد شعراء سوريا الدكتور الشاعر خليل فؤاد يوسف قصيدته مخاطبًا الياسيني “يا شاعر التسعين”، وكتب الشاعر الفلسطيني قصيدة أيضًا، كما كتب الشاعر الدكتور أحمد الحسن أبو الأثير قصيدة للياسيني، وكذلك كتب الشاعر سيد سليم قصيدة في الشاعر الياسيني، كما كتبت عنه الدكتورة منى ضيا رئيس مجلس إدارة مجلة مملكة الياسمين الأدبية قصيدتها بعنوان: “أنا القلم الذي ما كان طوعا للسلاطين”، وبدأتها بكلمة للحاج ياسين الياسيني تقول له فيها: (تَاجٌ تَزينَ بسلاسة بحبٍ وزيَن جبينك بذهب كلماتٍ تعودناها مِنكَ يا شاعرنا الكاتب الأسير الشهيد الحي المناضل).

لقد قاتل الشاعر والمجاهد الكبير لطفي الياسيني في خنادق كثيرة دفاعًا عمَّا يؤمن به من قيم ومبادئ تربى عليه، وعاش عمره من أجلها، وما فقده من أعضاء جسده، وما أصابه في نفسه من جرائها، وصبر واحتسب؛ فقد وقف في خندق الوطن والأرض والدار، كما وقف في خندق الدفاع عن لغته العربية الفصحى، مثلما وقف في خندق الشعر الخليلي المقفى منافحًا عنه، مثلما وقف في خندق الكرامة والإباء حين دافع عن نفسه ضد خصومه، ولم يبقَ له مع تقدم السن، واعتلال الصحة غير خندق الشعر الذي أخذه بديلًا عن كل الخنادق الأخرى ليقاتل من داخله ومن خلاله كل أعداء الخنادق الأخرى معًا أنه خندق الشعر الذي لم ولن يتنازل عنه، ليظل بحق كما يريد أميرًا للشعر العربي في عصره.







تم عمل هذا الموقع بواسطة